الشباب اللبناني… في أحضان الأرزة أم على أجنحة الهجرة
لبنان أو (رسميًّا: الجُمْهُورِيَّة اللبنانيَّة)، هي دولة عربيّة واقِعَة في الشَرق الأوسط في غرب القارة الآسيويّة. تَحُدّها سوريا من الشمال والشرق، وفلسطين المحتلة من الجنوب، وتطل من جهة الغرب على البحر الأبيض المتوسط. هو بلد ديمقراطي جمهوري طوائفي. مُعظم سكانه من العرب المسلمين والمسيحيين. هاجر وانتشر أبناؤه حول العالم منذ أيام الفينيقيين، وحاليًّا فإن عدد اللبنانيين المهاجرين يُقدَّر بضعف عدد اللبنانيين المقيمين.
نعم، هذا هو التعريف البسيط للبنان على الويكيبيديا، لكن دعوني أضيف تعديل بسيط على الجملة الأخيرة “هاجر ويهاجر أبناؤه حول العالم بعدما فقدوا الأمل بعيشِ حياة كريمة على أرضه”
تاريخيا، اشتهر لبنان بالكثير من المزايا والخصائص التي ميّزته عن باقي الدول المحيطة به في الشرق الأوسط. إلا أن الموضوع الأشهر الذي عُرف به هذا البلد الصغير، كان تصديره للمهاجرين إلى كافة دول العالم. الهجرة من لبنان قديمة جدا، تعود إلى نهايات القرن 19، مع احتدام الصراعات الطائفية في سوريا، التي كان لبنان جزءا منها حينها، وسعي المواطنين إلى البحث عن أمكنة أخرى أكثر أمنا واستقرارا.
منذ الأزل، والشباب اللبناني، منتشر في كافة دول الاغتراب، منهم من هرب من الحروب أكانت حربًا أهلية، طائفية، دولية أو إسرائيلية… فالكلّ تصارع على هذه الأرض. وعلى إثر ذلك رحل الكثير عن هذا الوطن بحثًا عن حياة أو علم أو عمل أفضل. ذاك المغترب هو مقاوم من نوع آخر، شخص رفض الذلّ في هذا البلد، استسلم للمقاومة الداخلية، فخرج ليقاوم السلطة من الخارج.
التاريخ يعيد نفسه، وبالعودة إلى الحاضر، تعتبر الهجرة من المركبات الرئيسية للتركيبة الاجتماعية اللبنانية، خاصة إذا ما نظرنا إلى الأرقام التقريبية التي تلخص حجمها. هذه الأرقام، وقعها سوداوي أكثر من التاريخ بعينه، لنلقي نظرة…
حسب العديد من الدراسات الإحصائية، غادر لبنان 600 ألف لبناني بين عامي 1992 و2019، لم يعودوا أبدا، أي بمعدل 22,300 شخص سنويا. ويكاد يكون الرقم هو الأعلى بين دول العالم من حيث نسبة المهاجرين والمغتربين مقارنة بعدد السكان الإجمالي.
يتبيّن أن حجم الهجره الخارجية بين اللبنانيين وصل إلى 718.584 مهاجراً خلال العقد الأخير (2008-2017)، أي بمتوسّط سنوي وصل إلى نحو 72 ألفاً، وهو ما لم يعرفه لبنان في تاريخه، إذ لم يتجاوز المتوسّط السنوي حافة 60 ألفاً خلال فترة الحرب الأهلية (1975-1990) ، ونحو 40 ألفاً خلال فترة 1992-2007.
ووفق المؤسسة الدولية للمعلومات، بلغ عدد اللبنانيين الذين غادروا البلاد من دون عودة في 2019 نحو 62 ألفا، مقارنة بحوالي 42 ألفا في العام 2018، أي زيادة بنسبة 42%. وظهر أن غالبية المهاجرين هم من الشباب، خاصة من خريجي الجامعات، وأن الدافع الرئيسي للهجرة هو البحث عن فرص عمل واستقرار في الخارج نظرا لصعوبة الأوضاع الاقتصادية في لبنان.
ومع بداية 2020 وحتى نهاية شهر آب، تزايدت حركة المغادرين ولا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت، فانخفض متوسط عدد القادمين بنسبة 12,3%، بينما ارتفع متوسط عدد المغادرين بنسبة 36%. ولوحظ تسارع وتيرة هجرة الشباب الذين سارعوا إلى تقديم طلبات الهجرة واللجوء إلى كندا وفرنسا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا والخليج، مروراً بتركيا وقبرص واليونان، علماً بأن موجة الهجرة الأخيرة، شملت لبنانيين يملكون جنسيات أخرى خرجوا من لبنان رغم تفشّي فيروس كورونا، فانتظروا فتح أبواب بعض الدول أمام اللبنانيين.
كما أن حلم الهجرة في لبنان ليس مقرونا بحملة الجنسية اللبنانية فقط، فهناك الكثير من المقيمين على الأراضي اللبنانية، من اللاجئين والعاملين، ممن يسعون للهجرة أيضا من هناك. ومازالت المظاهرات التي قام بها الفلسطينيون أمام السفارة الكندية شاهدة على ذلك المطلب، حيث تجمع المئات من الشباب أمام باب السفارة مطالبين بفتح أبواب الهجرة لهم. فضلا عن المشهد البنغلادشي الكبير الذي رأيناه في مطار بيروت الدولي.
هذه الأرقام تعرض بعض النتائج لكن دعونا نعرض الأرقام التي تمثّل بعض الأسباب:
يعيش 55 في المئة من اللبنانيين، وفق الأمم المتحدة، تحت خط الفقر وارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع إلى 23 في المئة. وبحسب استطلاع للرأي أجراه برنامج الأغذية العالمي والبنك الدولي نهاية العام 2020، أقدمت 35 في المئة من الأسر المستجوبة على خفض عدد وجباتها اليومية.
في نهاية العام 2020 وبحسب برنامج الأغذية العالمي، تجاوز معدل التضخم في أسعار السلع الغذائية عتبة 400 في المئة، أما لمتوسط الرواتب بلغ متوسط راتب الموظف 950 ألف ليرة لبنانية، بحسب إدارة الإحصاء المركزي، أي ما كان يوازي وفق سعر الصرف الرسمي، 627 دولاراً. أما اليوم وعلى وقع تدهور الليرة، بات يعادل أقل من ستين دولاراً في السوق السوداء.
و بلغ معدل البطالة نهاية العام 2020 نحو 39,5%، وفق دراسة أجراها البنك الدولي وبرنامج الأغذية أما البطالة في صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و26 عاما وصلت إلى 60%… وبين العامين 2019 و2020، انخفضت الوظائف بدوام كامل في قطاع البناء على سبيل المثال بنسبة 40%. وشهد قطاع الفنادق والمطاعم تراجعاً بنسبة 31 في المئة، وفق الأمم المتحدة.
زد على ذلك، الأزمة الاقتصادية وتفشّي فيروس كورونا أدّيا إلى إغلاق 785 مطعماً ومقهى بين أيلول 2019 وشباط 2020، مما أدى إلى فقدان 25 ألف موظف وظائفهم، كما ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 63%
بلغة الأرقام أيضا: حوالي 10 غرامات من الذهب قد تكلّف الشاب اللبناني 5 ملايين ليرة لبنانية في أيّامنا هذه
فبدل من أن يتجه اللبناني لشراء الذهب لإتمام خطبته أو عرسه أضحى يعتمد على بيع مقتنيات البيت من هذا الذهب لتأمين لقمة العيش وسد ديونه وسط الغلاء الفاحش، فيبقى التفكير بالزواج متوقف لأجل غير مسمى لأن فكرة الزواج أصبحت أقرب إلى الحلم من الحقيقة.
والمضحك المبكي من ويكيبديا: “ويشتهر لبنان بنظامه التربوي الرائد والعريق في القدم الذي يسمح بإنشاء مؤسسات تعليمية من مختلف الثقافات ويشجع التعليم بلغات مختلفة بالإضافة للعربية. وكان لأبنائه دورٌ كبير في إثراء الثقافات العربية والعالمية في مجالات العلوم والفنون والآداب وكانوا من رواد الصحافة والإعلام في الوطن العربي.”
نعم وسيظلّ لأبنائه دور كبير في إثراء هذه الثقافات حول العالم طالما أن هذا البلد لن يقوم بإستيعابها. لبنان بكل بساطة لم يعد باستطاعته احتواء خيرة شبابه ونوابغه التي لاذت بالفرار لدقّ باب الهجرة، هجرة الأدمغة والكفاءات تستنزفه في العمق، فهذه الـ 10.452 km² تحتاج لهؤلاء الشباب ليساهموا بتطويرالاقتصاد المحلي وتعزيز الإنتاجية، لكن المخاوف والهواجز كثيرة فكل الطرق في لبنان لم تُفترش إلا بالشوك.
فالسلطات اللبنانية لم تعد تألو جهدًا في دفع أصحاب العقول والكفاءات من الشبان إلى الهجرة بعيدًا، شبان من المفترض أن يكونوا العمود الفقري لأي وطن يطمح نحو التقدم والتطور والإصلاح، لكن لم يتوصل الشباب اللبناني إلّا إلى حلّ وحيد لا بديل عنه، الهجرة إلى دول الاغتراب بحثًا عن حياة أفضل. فأحلام الشباب تتقلّص يوما بعد يوم بعدما أنهكته قسوة الأيام في ايجاد فرصة عمل وتأمين لقمة العيش فأصبحت تلاحقه أشباح العوز والذل، أصبح الشاب يرى أحلامه من حوله تتحطم، ولا يبالي لأن الأمل المحكوم اضمحل و” أحلام بسيطة في قبر الفقر تدفن”. لم يعد يملك الشباب اللبناني ترف النهوض بعد أن قضت على جميع فرصه تلك السلطة المسرطنة والغير قابلة للعلاج فيعيش تحت وطأة سلطة تمارس بحقنه التهجير القسري
“الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن” الإمام علي بن أبي طالب
هذه العبارة لخصت أسباب جوهرية لكل شاب يفكر في الهجرة، دوافع كثيرة أوصلته لهذا القرار، فهذه الفكرة ليست وليدة اللحظة.
هذه الفئة المهمشة التي هُدرت قيمتها وفعاليتها في المجتمع تقاتل يوميا…لكن أزمة داخل أزمة، بلا أمل… وخيبة بعد خيبة أغرقتها بالهموم…
أضحى العيش في لبنان كالعيش في فيلم تملؤه المغامرات والتحديات، ربما أضرب المثل بفيلم “Cast away” لتوم هانكس الذي يظل عالقا على جزيرة مهجورة ويقاتل بمفرده ليبقى على قيد الحياة، هذه الجزيرة هي لبنان وتوم هانكس يمثّل الشاب اللبناني.
الشاب اللبناني مستعد على التضحية بعامين أو ثلاثة خارج البلاد على أن يضحّي بـ 10 أو 15 عاما عالقا داخلها من دون تقدّم.
ربما تكون الأم اللبنانية الأم الوحيدة التي تفرح عندما يغادر ابنها بلده ففي أعماقها تقول ” سأشتاق لك يا ولدي لكنني أعلم أنك ستكون في مكان أفضل من لبنان، في مكان أفضل من هذا الوطن المطوّق بالكوابيس ”
صار كل ما يشغل بال الشباب اللبناني التفكير بالهجرة نحو بلاد تؤمن له أدنى حقوق العيش، بلاد لا تدفعه الى الإنتحار، بلاد لا تجعله يموت على أبواب المستشفيات، بلاد لا يقف فيها طوابير ينتظرون شراء ربطة خبز مغمسة بالذل، لأن مستقبل الشباب اللبناني هنا لم يعد فقط في خطر بل أصبح مجهولاً تماماً، الشباب اللبناني تعب من الموت والإنبعاث، يريد فقط أن يعيش وهذا الوطن يزيده غربة وتهميشا.
التحديات المتفاقمة، الإضطهاد والانسداد السياسي، الفساد المتفشي، الرواتب المتآكلة بفعل انهيار العملة، القلق الأمني، البطالة، التطرّف، الطائفية، التوترات السياسية، المحاصصة، عدم الاستقرار الامني، عدم التوازن في التنمية، الأزمات الاقتصادية والمعيشية، مشاكل عدة يواجهها المجتمع اللبناني منذ عقود، كلها تخلق اليأس، تزيد نسبة الشباب الذي يتعاطى المخدرات، التسرب المدرسي، الكآبة، الامراض النفسية والانتحار. ففي لبنان لا يوجد خطة نفسية-اجتماعية او استراتيجية وطنية من اجل تفريغ الاحتقان النفسي لدى الشباب بالإضافة إلى إن غياب المنهجية الموحدة في أسس التعليم يخلق نوعا من القوقعة والانعزال لدى الشباب في المراحل الأولى فيخلق لديهم نوعا من الصراع الداخلي.
كلها أسباب رئيسية تجعل المستقبل بعيداً كل البعد عن تباشيرالخير لآلاف الشباب اللبناني والأمور العاجلة في لبنان لا تتوقف هنا، فالأزمة أكثر تعقيدا…
أيام صعبة للغاية يعيشها لبنان، يئن فيها الشعب تحت وطأة أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، حيث تتزامن مع انسداد سياسي تسبب في عدم تشكيل حكومة مستقرة حتى اليوم، ما يعرقل الكثير من الخدمات المقدمة للمواطنين ويدفع بالبلاد إلى شفير الانهيار التام.
ثم ما زاد الطين بلّة تفشي فيروس كورونا الذي أدّى إلى تسارع التراجع في العائدات، إلى أن جاء انفجار المرفأ كجرس إنذار لإعلان الهزيمة، فـرضخ الشباب اللبناني لعملية التهجير الممنهج، بعد أن فقد أمل بناء مستقبل آمنٍ في لبنان.
الشباب اللبناني خرج للتظاهر والإحتجاج مع انطلاق ثورة 17 تشرين آملا بمسك زمام المبادرة نحو التغيير الأفضل، كان الوجه الشبابي هو الوجه الأبرز لتلك التحركات، طلاب الجامعات والمدارس والمعاهد انتفضوا ورفضوا سياسات السلطة اللبنانية، سياسات اتسمت منذ التسعينيات إلى اليوم، بالعقم تمامًا، فخرج الشبان ومن كل الأطياف ليعبّروا عن رفضهم لتلك السياسات، وليطالبوا بتنحي هذه المنظومة وتسليمها لهم ولأصحاب القدرات والخبرات منهم. لكنهم اصطدموا بمجموعات غيّرت بوصلة هذه الانتفاضة لأخذها إلى مكان لم يود هذا الشباب الوصول إليها فأصبح كلٌّ يغنّي على ليلاه، ولم يعد هذا الشباب يود المشاركة بحراك مسيّس، لنصل اليوم أمام مشهدية الانهيار من دون تأليف حكومة التي ما تزال حبراً على ورق حتى الآن على الرغم من تفاقم الأزمة
ينقسم الشبان في لبنان إلى قسمين، منهم من ارتضى أن يخضع لهذا الواقع الأليم ويتماشى مع نظرية “من ليس لديه خير في بلده، ليس لديه خير في غيره” ومنهم من قرر دق باب الهجرة بحثا عن شروط حياتية أفضل وحفظ كرامته في الخارج.
والذي اختار البقاء واقتنع بوجود الأحزاب اللبنانية وانخراط الشباب اللبناني فيها، يرغب بخلق نوع من الثقافة الحزبية لتوعية الشباب لدى انخراطهم في العمل الحزبي الذي يعد رديفا للعمل المدني، فضلا عن استعداده للعمل حتى بمجال بعيد عن اختصاصه، فالمهم البقاء تحت سقف الوطن…
مجموعة ضئيلة تريد البقاء، ومجموعة أخرى التي تمثّل الأكثرية تريد المغادرة وتفضّل الهجرة على الرغم من مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية، ربما هي معركة بلا أمل، لكنها تستحق العناء، النضال يستحق العناء…لبناء الأوطان
تدخل مطار بيروت فيتهيأ لك أنك أمام بحر متماوج يقذف بموجه على دفعات نحو شاطئ ما، ربما على شاطئ الأمان والإستقرار، ففي لبنان.. آمال الشباب معلقة على أجنحة الطائرة أو أشرعة قوارب الهجرة
السبل الناجعة للعيش في كنف هذا الوطن بطريقة أفضل هي بايجاد هويته أولا “وطن النظام والقانون المجرد من الطائفية، وطن تجمعه الصور الوحدوية والوطنية ”
ما يبدو جليّا أن الاوضاع المعيشية باتت أسوء وستغدو أسوء يوماً بعد يوم خاصة في ظل ارتفاع الدولاء وذهاب مصير لبنان الى المجهول.
الغصة واحدة، الشباب اللبناني شريحة باتت مثقلة، تبحث عن التغيير في مفاصل حياتية عدة، ولكن الرهان دائما: هل يستطيع هؤلاء الشباب تحقيق التغيير لوحدهم؟
الشباب اللبناني تجرّع أوجاعا كثيرة زادت من رغبته في الرحيل بعد أن أصبح الاستقرار في لبنان من الكماليات… بل من المعجزات
فكان كلما يحاول النهوض يصطدم بحائط الواقع المرير، واقع البطالة… لكن هل الشباب اللبناني ضحية هذه الطبقة الفاسدة؟ أم كان له دور بتفعيل دور هذه الطبقة بما له من القدرة على التأثير؟
هل ممكن تدارك ظاهرة الهجرة الخطيرة بعد الآن أم فات الأوان؟
على الرغم من كل شيء، يبقى الأمل بحكومة جديدة تعمل على تنفيذ إصلاحات وتحد من الفساد وتؤمّن فرص عمل للشباب وتعيد الثقة للشعب اللبناني بحكّامه. فالبلد على حافة الهاوية، نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر وخيرة شبابه على أبواب المطار، أما المغترب الذي كان ينوي الرجوع، فيرى طريق العودة قد أصبح ظلا شاحبا لما كان عليه.
يبقى الأمل أن يعود قلب الشباب اللبناني بالنبض من جديد…لأن هذا القلب الكبيروالمطعون يستحق الحياة.
حسن شعيتاني